مستفيدة من تجربة «الجبيل وينبع».. هيئة ملكية لإنعاش قطاع الإسكان

النجاح الذي حققته مدينتا الجبيل وينبع من جميع الجوانب السكنية والصناعية والاقتصادية والسعودة جعلهما تصبحان رمزين وعلمين للإنجاز والإبداع السعودي في التنمية الاقتصادية والصناعية والاجتماعية والسكنية وتخطيط وإدارة المدن وحماية البيئة، فهاتان المدينتان قصة لحالات التنمية الناجحة التي تدرس في أروقة الجامعات ومواضيع حوارية في حلقات النقاش في المؤتمرات المحلية والإقليمية والعالمية. ولقد سبقت المملكة دولا عديدة في الخليج والشرق الأوسط في إنشاء المدن الصناعية، فإذا نظرنا أن مدينتي الجبيل وينبع نجدهما أنشئتا بموجب مرسوم ملكي رقم م/75 في عام 1395هـ /1975، أي قبل 37 سنة، والمفرح أن هاتين المدينتين الصناعيتين ما زالتا تنتقلان من قصة نجاح وإبداع إلى أخرى، وما زالت شعلة نجاحهما مضيئة، فالعقود الأربعة من عمرهما لم تضعف عزيمتيهما وحيويتيهما. وقد تداول على دفة قيادة الهيئة الملكية عدد من القيادات السعودية، وما زالت مسيرة النجاح تمخر أمواج تحديات تنمية وتوطين صناعة البتروكيماويات ومرافقها اللوجستية والسكنية فتتجدد عاما بعد آخر. هذه المقدمة التي جالت في خاطري جعلتني أفكر وأصل إلى حقيقة بأن هذا النجاح وراءه الإرادة السياسية من قيادة المملكة، وتبعه التخطيط والتنظيم والإدارة والبنية التنظيمية والمعادلة الصحيحة التي تمكن من إدارة العمل المشترك الحكومي والخاص للأنشطة الاقتصادية والصناعية بفاعلية وإبداع وبجودة وبمعايير الأسواق العالمية. فعندما تكون المقدمات سليمة تكون المخرجات والنتائج أكثر سلامة وجودة وإبداعا. قادتني هذه التجربة الناجحة في بلادي وكنت أدرّسها لطلابي كحالة تنظيمية في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة الملك عبد العزيز إلى حقيقة النجاح التي هي: تنظيم الهيئة الملكية لمدينتي الجبيل وينبع فهو التنظيم والبناء السليم والمناسب والفعال الذي دمج بين الإرادة السياسية للقيادة والرؤية والغايات والمرونة في الأنظمة والصلاحيات لتشييد وإدارة المنشآت والمشاريع الصناعية والإسكانية والاجتماعية في شراكة بين الحكومة السعودية وشركات القطاع الخاص السعودي والأجنبي العالمي. وكانت أهداف وغايات الهيئة الملكية للجبيل وينبع كما تضمنها المرسوم الملكي رقم 75 في 1395هـ: 1- تخطيط وتنفيذ مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين كأحد أهم المشروعات التنموية العملاقة في المملكة، حيث تمثلان بعدا اقتصاديا لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية في المجال الصناعي، وتفتحان آفاقا جديدة للتنمية المستدامة. 2- إنشاء الشركة السعودية للصناعات الأساسية ”سابك”؛ وذلك لإنشاء مصانع للبتروكيماويات تستفيد من الغاز وترفع من قيمته المضافة. 3- إنشاء وتشغيل وصيانة التجهيزات الأساسية، وتقديم الخدمات العامة، وتطوير التنمية الاجتماعية لدعم المجمعين الصناعيين في المدينتين. 4- تأهيل الكوادر الوطنية اللازمة لإدارة وتشغيل المدينتين الصناعيتين. 5- تشجيع القطاع الخاص للاستثمار في المدينتين. 6- تنمية الموارد البشرية والسكانية. 7- حماية البيئة. ونظرا لأن أزمة الإسكان في المملكة بلغت من التشابك والتعقيد حتى أن كثيرا من المواطنين فقدوا الأمل في حلها. فالانحرافات والتشوهات في سوق العقار والإسكان عميقة ومضى عليها أربعة عقود من الإهمال وغياب النظام حتى شلت قوى سوق العقار والإسكان عن التوازن والفعالية في توفير المسكن الميسر لأكثر من 65 في المائة من المواطنين في المملكة. وأصبح البحث عن المسكن سواء كان شقة سكنية أو منزلا صغيرا، إيجارا أو تملكا كابوسا يرافقهم في ضوء النهار قبل سكون وعتمة الليل عند المنام، ويعطل خطط زواج أبنائهم وبناتهم. فأصبح إسكان المواطنين في المملكة يشكل أزمة اجتماعية واقتصادية ومالية على مواطني المملكة لتداعيات سنين عديدة من عدم التخطيط وعدم التنظيم لسوق العقار والإسكان وتدني كفاءة القدرات الفنية والمالية للمطورين العقاريين السعوديين في المملكة، وباتت معطيات واقتصاديات السوق العقارية والإسكانية عاجزة عن توفير الحلول الفعالة لتوفير المسكن الميسر للمواطنين والمقيمين في المملكة؛ ما تطلب تدخل القيادة السياسية العليا في المملكة؛ فأصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز – أمد الله في عمره – المراسيم الملكية الأربعة المرتبطة بالإسكان: 1- اعتماد 250 مليار ريال سعودي لمشاريع الإسكان. 2- إنشاء 500 ألف وحدة سكنية للمواطنين من ذوي الدخول المنخفضة. 3- زيادة رأسمال صندوق التنمية العقاري إلى 70 مليار ريال وزيادة مبلغ قرض المواطن إلى 500 ألف ريال ونقل ارتباطه من وزارة المالية إلى وزارة الإسكان. 4- تأسيس وزارة للإسكان. والآن وزارة الإسكان في المرحلة الأخيرة من إعداد مشروع الاستراتيجية الوطنية للإسكان والذي أعدته المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي GIZ: Gesellschaft für Internationale Zusammenarbeit مع فريق من المستشارين والخبراء السعوديين من وزارة الإسكان وعدد من الخبراء السعوديين في التطوير العمراني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، واطلعت من قرب وعمق على مستوى الجهود والدراسات والمسوحات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية التي أعدها فريق مشروع الاستراتيجية على مدار عامين، فكانت خطة استراتيجية جديرة بالإشادة وتستحق الدعم لاعتمادها وسرعة البدء في تنفيذها. إن تنفيذ خطة الاستراتيجية الوطنية للإسكان ستواجه بأمور وعقبات تنظيمية وإدارية متداخلة ومتقاطعة وممارسات بيروقراطية مر عليها عشرات السنين في مجال التخطيط العمراني والبلديات والتي تمتد إلى عدد من الوزارات مثل (وزارة الشؤون البلدية والقروية، وزارة المياه والكهرباء، وزارة الاتصالات، وزارة النقل، وزارة المالية)؛ ما سيضعف من فاعلية تطبيق الخطة ولا يحقق الأهداف والغايات التي تنشدها ولا يحس المواطنون بإنجازاتها؛ مما يتطلب فورية تعديل أو إلغاء تلك الأنظمة والممارسات أو إصدار أنظمة جديدة تضمنتها الخطة مثل: 1- نظام حقوق المستأجرين والملاك. 2- نظام الدعم الحكومي لإسكان شرائح المجتمع المحتاجة اقتصاديا. 3- نظام تمويل الإسكان عن طريق المصارف وشركات التمويل بأرباح منخفضة وميسرة وعلى مدد طويلة 20 إلى 30 سنة. 4- سرعة إصدار مجموعة أنظمة الرهن العقاري التي مضى عليها عشر سنوات من الدراسات والمناقشات ولم تصدر بعد. وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال للاستفادة من تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع ومحاكاتها بإنشاء الهيئة الملكية للإسكان؛ لأن التحديات والطموحات التي تواجهنا الآن والطموحات التي نتطلع لتحقيقها بتشييد مجمعات سكنية في المدن وضواحٍ سكنية على أطراف المدن بجودة ومعايير عالمية تتطلب من الحكومة السعودية توطين صناعة المساكن العالمية، كما وطنت قبل أربعة عقود صناعة البتروكيماويات. ولتقصير الفترة الانتقالية من الوضع الحالي الفوضوي والمشوه في سوق العقار والإسكان إلى المنظم والفعال والمتزن لتوفير المساكن من القطاعين الحكومي من خلال وزارة الإسكان والخاص من المطورين العقاريين السعوديين والعالميين. ولتوفير المرونة والديناميكية في تطبيق الاستراتيجية الوطنية للإسكان وما تتطلبه صناعة المساكن واقتصاديات سوق العقار والمساكن فإني اقترح إصدار مرسوم ملكي بتأسيس الهيئة الملكية للإسكان برئاسة ولي العهد وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز وعضوية: 1- وزير الإسكان. 2- وزير الشؤون البلدية والقروية. 3- وزير المياه والكهرباء. 4- وزير النقل. 5- وزير المالية. وستلعب الهيئة الملكية للإسكان الدور الذي لعبته الهيئة الملكية للجبيل وينبع في إعادة تنظيم وتفعيل صناعة وسوق التطوير العقاري والمساكن، حيث يعتبر حجم قطاع العقار والمساكن الثاني في الاقتصاد السعودي وتجاوز حجم الاستثمارات فيه تريليون ريال سعودي في عام 2011. ويمكن تلخيص الأهداف والغايات التي ستكلف الهيئة الملكية للإسكان بتحقيقها فيما يلي: 1- دعم ومتابعة تنفيذ خطة الاستراتيجية الوطنية للإسكان. 2- تطوير أنظمة وسياسات التخطيط العمراني والسكني واستخدامات الأراضي الحكومية. 3- توفير الأراضي اللازمة لمشاريع الإسكان بالمملكة. 4- إنشاء شركة وطنية للمساكن بالشراكة مع مطور عالمي للمساكن لتنفيذ مشروع خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز 500 ألف وحدة سكنية وفق الجودة والمعايير العالمية وترشيد الطاقة في الكهرباء واستهلاك المياه وحماية البيئة وبأقصر فترة زمنية ممكنة، وستقود هذه الشركة قطاع وصناعة تطوير المسكن في المملكة وفق الجودة والمعايير الدولية وتؤسس فاعلية والتوازن بين قوى العرض والطلب في سوق الإسكان. 5- تأسيس شركة حكومية للاستثمار في شراء حقوق الملكية لمحافظ الرهونات العقارية التي تمولها المصارف السعودية وشركات التمويل العقاري للمواطنين السعوديين؛ لتمكينها من التوسع في تمويل المواطنين لشراء المساكن. 6- دعم وتحفيز المطورين العقاريين السعوديين والأجانب للاستثمار في صناعة المساكن وتأسيس شركات مشتركة. وخلاصة القول، إن اعتماد مشروع خطة الاستراتيجية الوطنية للإسكان وسرعة إصدار الأنظمة التي أوصت بها، إضافة إلى الاستفادة من تجربة المملكة الناجحة في آلية تأسيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع في تنظيم الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص في إنشاء وإدارة الأنشطة الاقتصادية ذات الطبيعة التجارية بمحاكاتها من خلال إنشاء هيئة ملكية للإسكان ستوفر المساكن الميسرة لشريحة كبيرة من المواطنين، وتهيئة صناعة وسوق الإسكان للانطلاق ليعمل بفاعلية وتوازن وفق قوى العرض والطلب الذي تحكمه الأنظمة والشفافية لتوفير وتمويل ملكية المساكن لجميع شرائح المجتمع السعودي.ء

د. ابراهيم الغفيلي

دكتوراه الفلسفة – جامعة ولاية فلوريـدا وماجستير من كلية ادارة الاعمال والادارة العامـة جامعة ولاية كليفورنيا وبكالوريوس : كلية الاقتصاد والادارة , جامعة الملك عبدالعزيز